دخلت السينما المستقلة في هوليوود مرحلة مفصلية في ثمانينات القرن الماضي، عندما قدم لها النجم، روبرت ريدفورد، مهرجان «سندانس السينمائي» كما نعرفه اليوم، عام 1985، (التسمية الرسمية اعتمدت عام 1991) كملتقى داعم للسينما المستقلة استفاد منه صناع الأفلام المستقلة بشكل لم يسبق له مثيل. «سندانس السينمائي» تفرع منه مهرجان «سلامدانس» عام 1995، وهذا الثاني أطلقه صناع الأفلام الذين لم يتمكنوا من تضمين لقطات مهمة في النسخ النهائية من أفلامهم المشاركة في «سندانس».
من رحم هوليوود رغم أن كل الأفلام المستقلة التي نشاهدها اليوم خرجت من رحم استوديوهات هوليوود صانعة الأفلام السائدة، إلا أنها لاتزال تمنح المخرجين العاملين خارج دوائر السينما التجارية درجة محددة من الحرية الإبداعية والمزيد من النفاذ إلى السوق. قرار الاستوديوهات الاستثمار في السينما المستقلة في بداية التسعينات أثبت نجاحه، وأسهم في تطوير السينما الأميركية وتحسين ذوق الجمهور بشكل عام. نقل السينما المستقلة إلى داخل استوديوهات هوليوود ربما لم يحقق الأرباح المادية المأمولة، لكنه حتما جلب للكثير منها سمعة طيبة وخلق لصناعة السينما منزلة رفيعة كانت في أمسّ الحاجة إليها. جوائز الجوائز الممنوحة في مهرجانات مثل «سندانس - وكان - وفينيسا - وبرلين - وتورونتو - والغولدن غلوب - والأوسكار»، رفعت كثيراً من سمعة الاستوديو الفائز، والهيمنة على قطاع السينما المستقلة منحت الاستوديوهات الرئيسة نوعاً من السيطرة الكاملة على المشهد السينمائي الأميركي، هي السيطرة التي في القرن 21 جعلت مصطلح «مستقل» ليس جزئياً فقط بل أيضاً عتيقاً. - في بداية التسعينات رغبت الاستوديوهات في كسب الأرباح من السوق البديلة، فأطلق كل استوديو شركة صغيرة خاصة لإنتاج أو توزيع الأعمال المستقلة. - مصطلح (مستقلة) استخدم لوصف الأفلام المصنوعة خارج نظام استوديوهات الإنتاج في هوليوود ويجري تمويلها بشكل مستقل. |
أصبح تعريف مصطلح «مستقلة» محل نزاع، لأنه كل الأفلام عملياً مقلصة نوعاً ما، ولا تتمتع بحرية كاملة في عرض المضمون بسبب عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية في السوق، لكن بشكل عام يستخدم المصطلح لوصف تلك الأفلام المصنوعة خارج نظام استوديوهات الإنتاج في هوليوود. بكلمات أخرى، جرى تمويلها بشكل مستقل، وبالتالي تحررت «افتراضاً» من أي قيود.
أيضاً المصطلح يرتبط بميزانية فيلم مقارنة بفيلم آخر تحت مظلة استوديو، مثلاً، فيلم Clerks عام 1994 كانت ميزانيته 27 ألف دولار مقارنة بـ30 مليوناً معدل إنتاج الفيلم في هوليوود آنذاك، فضلاً عن محتوى تلك الأفلام عندما تتناول موضوع معاناة الأقليات كما هي الحال مع أفلام الأميركيين من أصول إفريقية. عام 1987 عرض فيلم «حافة النهر» لتيم هنتر في «سندانس» وحقق نجاحاً كبيراً أدى إلى حصوله على فرص عرض خارج المهرجان، واعتبر آنذاك تحفة سينمائية عن شباب ساخطين في مدينة أميركية صغيرة.
فيلم «جنس، أكاذيب، وشريط فيديو» لستيفن سودربيرغ عام 1989، خلق حالة هوس في «سندانس»، ذلك العام، ما أدى إلى تقدم شركة «ميراماكس»، المملوكة آنذاك للأخوين هارفي وبوب واينشتاين، (اسم الشركة مأخوذ من نصفَي اسمَي والديهما ميريام وماكس)، لشراء حقوق توزيعه، وبالتالي جنى 24 مليون دولار في شباك التذاكر، في سابقة لم تحدث لفيلم مستقل في الثمانينات، والفضل يعود إليه في لفت انتباه هوليوود إلى تلك السينما المستقلة، فمنذ خروجه من أسوار «سندانس» إلى العلن أصبحت هوليوود ترسل تنفيذيي استحواذ إلى مهرجانات السينما للبحث عن أفلام قد تكون ذات مردود مالي ولو كان جيداً وليس بالضرورة عالياً.
«ميراماكس» صنعت لنفسها سمعة في عقدَي الثمانينات والتسعينات بإنتاج أفلام فنية، وكذلك إنتاج الأعمال المستقلة، وتلك الناطقة بغير «الإنجليزية» التي كانت ترفضها الاستوديوهات الأخرى، وكان أبرزها «الفتاة العاملة» 1987، ورائعة غوسيبي تورناتوري «سينما باراديسو» 1988 الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي عن ذلك العام. بالإضافة إلى الفيلم البريطاني «قدمي اليسرى» و«ريزيرفوار دوغز» 1992 لموظف محل الفيديو السابق الذي أصبح صانع أفلام في ما بعد، كوينتن تارانتينو، وفيلم «البيانو» 1993 للنيوزيلندي جون كامبيون.
في بداية التسعينات رغبت الاستوديوهات في كسب الأرباح من السوق البديلة، فأطلق كل استوديو شركة صغيرة خاصة لإنتاج أو توزيع الأعمال المستقلة، ونتج عن ذلك توهج السينما المستقلة ومزاحمتها أفلام هوليوود على منصات الجوائز، خصوصاً الأوسكار، عندما زودت الجمهور بمجموعة أفلام بلغت وقتها ذروة الإبداع والإثارة مثل «ذا جوي لاك كلوب» و«ذا كرو»، و«الرجل الميت يمشي»، و«مغادرة لاس فيغاس»، و«سيلينا». لكن فيلم «بالب فيكشن» لكوينتن تارانتينو كان أول فيلم مستقل يتخطى حاجز 200 مليون دولار، ويحصل على سبعة ترشيحات أوسكار، وفاز بواحدة (أفضل نص أصلي)، وهو الفيلم الذي حطم الحاجز بين السينما المستقلة والسائدة عندما أقحم الأولى في الجانب التجاري، وهو اختصاص السينما السائدة.
تلك الحركة انعكست بشدة في أوساط السينما المستقلة التي أصبحت تحقق أرباحاً عالية وبالتالي توظف ممثلين نجوم من الدرجة الأولى مثل جون ترافولتا، وجوليا روبرتس، وبروس ويليس، وجورج كلوني، وداستن هوفمان، وروبرت دينيرو، هنا دخلت المرحلة المفصلية الثانية عندما أصبحت منتجات تلك السينما تتحول شيئا فشيئاً إلى ما يشبه سينما هوليوود الكلاسيكية.
حتى في ما يتعلق بالنص فإن السينما المستقلة تخلت عن المدرسة التجريبية الفنية لمصلحة نهايات أفلام هوليوود التقليدية، فمثلاً، فيلم «إلمارياتشي» 1992، صنعه المكسيكي روبرت رودريغز بـ7000 دولار بهدف عرضه في سوق الفيديو المكسيكية، إلا أن شركة «كولومبيا» أعجبت بالفيلم واشترت حقوقه، ما دفع رودريغز إلى إعادة صنعه باللغة الإنجليزية عام 1995 بعنوان «ديسبرادو» بميزانية سبعة ملايين دولار، واختيار المكسيكي الصاعد آنذاك، أنتونيو بانديراس، وزميلته المكسيكية، سلمى حايك، لبطولته. نجاح «ديسبرادو» دفع رودريغز لصناعة فيلم ثالث تالٍ لـ«ديسبرادو» بعنوان «ذات مرة في المكسيك» 2003 من بطولة النجمين نفسيهما وميزانية ارتفعت إلى 30 مليون دولار.
لم يخلُ طريق «ميراماكس» من الصعوبات، خصوصاً المالية، لكن الأخوين واينشتاين نجحا في بيع الشركة إلى «ديزني» عام 1993، مع التوصل إلى اتفاق يمنحهما حرية التصرف بأموال الأخيرة في شراء وتوزيع أو إنتاج أعمال ذات مردود مال عالٍ ليستفيد الطرفان من كل صفقة.
سميت 1996 بسنة الأفلام المستقلة، خصوصاً أن أربعة من الخمسة المرشحين لأفضل فيلم كانت أفلاماً مستقلة (الاستثناء كان جيري ماغواير)، واستحقت التسمية بعد فوز «المريض الإنجليزي» للراحل آنثوني مانغيلا بأوسكار أفضل فيلم، وبروز أفلام أخرى مستقلة انتزعت جوائز عدة، من ضمنها الأوسكار في فئات مختلفة، كان أهمها «فارغو» للأخوين إيثان وجويل كوين، و«شاين» و«أسرار وأكاذيب» و«تحطيم الأمواج»، و«سلينغ بليد».
شركة ميراماكس اكتسبت سمعة رديئة نظراً إلى حملاتها المتواصلة العدائية لتأمين جوائز أوسكار لأفلامها طوال 11 عاماً متتالية (1992-2002) بدأت بفيلم «لعبة البكاء» إلى فيلم «شيكاغو»، وهي أطول سلسلة لأعمال فائزة في فئة أو أكثر، أو مرشحة لشركة منذ أن حددت الأكاديمية الأميركية للعلوم السينمائية عدد المرشحين لأفضل فيلم بخمسة عام 1944، وعندما وزعت الشركة فيلم «ويل هانتنغ الطيب» عام 1997 بميزانية 10 ملايين دولار، أصبح الأمر واضحاً أن الخط الفاصل بين السينما المستقلة وهوليوود قد ذاب.
الفيلم من بطولة الراحل روبين وليامز ورفيقي المسيرة الفنية القادمين من بوسطن، مات ديمن، وبين أفليك، وهذان الأخيران كتبا النص وفازا بأوسكار أفضل نص أصلي، وحصد الفيلم 225 مليون دولار في شباك التذاكر. وبحلول آخر التسعينات بدأت شركتا «ميراماكس» و«نيو لاين» إدخال أفلام من صنف «بلوكباستر» في قوائمهما.
بالإضافة إلى توزيعها لأفلام «كابوس في شارع إلم» (1984-2010)، وزعت «نيو لاين» أفلام «أوستن باورز» العالية الربحية، واستحوذت على حقوق أفلام «سيد الخواتم»، وهذا الأخير أمّن لها 654 مليون دولار من أول جزأين و1.12 مليار من الجزء الثالث فقط. بالنسبة لـ«ميراماكس» فإن الفيلم الأنجح لها كان الغنائي الاستعراضي «شيكاغو» 2002 الفائز بست جوائز أوسكار من ضمنها أفضل فيلم، وحصد 306 ملايين دولار، وترشح لها فيلمان عام 2004 كانا «البحث عن نيفر لاند» و«الطيار». اليوم، وبالنظر إلى كلفة إنتاج أفلامهما وكذلك عوائدهما، فإن «ميراماكس و«نيو لاين» المملوكة لـ«تايم-وورنر» لم تعودا مستقلتين، وخرجتا بشكل واضح من هذا التصنيف ودخلتا في تصنيف السينما السائدة. بكلمات أخرى فإن السينما المستقلة في القرن 21 لم تعد كما كانت في القرن السابق.
توترت العلاقة بشدة بين «ميراماكس» و«ديزني» بعد عقد كامل من استحواذ الأخيرة عليها، وتحديداً عام 2004، عندما رفض الرئيس التنفيذي لديزني آنذاك مايكل آيزنر طرح «ميراماكس» الفيلم الوثائقي السياسي «فاهرنهايت 11/9» لصانع الأفلام المثير للجدل مايكل مور.
رغم أن الفيلم حقق في عروضه التجريبية الأولى، أي قبل التوزيع، أكثر من 100 مليون دولار (222 مليوناً بعد انتهاء العروض عالمياً) وهو ما لم يحدث في تاريخ الأفلام التوثيقية، إلا أن «ديزني» لم تكن مهتمة بالمردود المالي لهذا الفيلم تحديداً لأنها كانت قلقة من آثار الفيلم على علاقاتها مع واشنطن وساكن البيت الأبيض، آنذاك، الرئيس جورج دبليو بوش (2001-2008)، وأيضاً على علاقاتها مع شقيق الرئيس وحاكم ولاية فلوريدا آنذاك، جيب بوش، حيث تمتلك «ديزني» فيها مدينة ملاهٍ ضخمة. تركت «ديزني» الفيلم وحصلت عليه «ليونز غيت».
عام 2005 ترك الشقيقان «ميراماكس» ديزني بعد توزيعهما أكثر من 500 فيلم (في 2015 استحوذت مجموعة «بي إن» الإعلامية على شركة «ميراماكس») وأسسا ما عرف بـ«ذا واينشتاين كومباني». ديزني أبقت على اسم «ميراماكس»، والشقيقان لم يطالبا بشركة «دايمنشن» المتفرعة من «ميراماكس» والمتخصصة في إنتاج أفلام المراهقين.
استغل منافسو «ميراماكس» أخبار الفراق وفي مقدمتهم «فوكاس فيتشرز» - المنافس الأقوى في القرن 21 - التي تأسست في 2002 بدمج «غوود ماشين» و«يو إس إيه فيلمز». «فوكاس فيتشرز» قلدت نمط «ميراماكس» خلال عقد التسعينات عندما طرحت مجموعة أفلام مستقلة حققت نجاحات كبيرة في شباك التذاكر العالمية، وفي الوقت نفسه حازت إعجاب أعضاء الأكاديمية الأميركية للعلوم السينمائية، مثل رائعة رومان بولانسكي «عازف البيانو» 2002، و«بعيداً عن الجنة» 2002، وفيلم الدراما المجزأة الجميل «21 غرامز» 2003 للمكسيكي إليخاندرو غونزاليس إيناريتو، «والإشراقة الأبدية لعقل نظيف» لمايكل غوندري عام 2004.
وفي عام الفراق بين «ديزني» والشقيقين واينشتاين، ضربت «فوكاس» بقسوة عندما طرحت فيلم «أزهار محطمة»، وفي العام نفسه فيلم الدراما السياسية «البستاني المتفاني » للمؤلف جون لي كاريه، و«كبرياء وتحامل» من رواية لجين أوستن وإخراج جو رايت. من ضمن الإنتاجات المستقلة في ذلك الوقت كانت هناك أفلام لمخرجين مؤلفين Auteur من ذوي البصمات الخاصة مثل الخيالي «اقتل بيل» بجزئيه (2003-2004) لكوينتن تارانتينو.
تارانتينو كان اسماً مشهوراً عام 2003 ومن مخرجي الدرجة الأولى في هوليوود، وكان استمراره مع «ميراماكس» وترويجه الذاتي لنفسه كصانع أفلام مرتد متوافق دائماً مع فكرة استقلالية أفلامه. الأمر نفسه ينطبق على ستيفن سودربيرغ الذي استمر في التنقل بين السينما المستقلة والسائدة كما حدث في الفيلم الشعبي «إيرين بروكوفيتش» ونظيره المستقل «ترافيك» عام 2000.
في بداية القرن 21 بدأت فكرة السينما المستقلة تتراجع لمصلحة صناعة أفلام بطريقة تارانتينو أي بابتكار أساليب فنية خاصة، وهنا بزغت مجموعة مخرجين لحقت بسودربيرغ وتارانتينو، ومن أهم مخرجي هذا الاتجاه نيل لابوت بفيلم «الممرضة بيتي» 2000، و دارين أرنوفسكي بفيلم Requiem For a Dream أو «مرثية حلم» عام 2000، وكريستوفر نولان بفيلم «ميمينتو» 2000.
وكان الفيلم المستقل الأبرز والأشهر الذي أطلق موجة أفلام بشاكلته نفسها إلى اليوم «مشروع الساحرة بلير» 1999 عن مجموعة طلاب يضيعون في الغابة، ويعثر على الفيلم الذي صوروه لرحلتهم، وشكّل المراهقون القاعدة الأضخم لجماهيره آنذاك. مع القرن 21 كانت هناك مجموعة أفلام موجهة للمراهقين لا تمتّ بصلة للسينما المستقلة لكنها تحسب عليها بسبب تخصص موزعها «ميراماكس» في تلك الأفلام، وهي سلسلة أفلام «فيلم مخيف» التهريجية الساخرة من أفلام الرعب الشهيرة «الصرخة».
أيضاً ضمن سينما المراهقين كانت هناك أفلام ظلامية إلى حد ما، ومنتجة بمعايير السينما المستقلة المتعارف عليها، أشهرها الفيلم الغريب «دوني داركو» 2001 الذي يبحث في جنون فترة المراهقة عن فتى يرى أرنباً مرعباً يطلب منه ارتكاب جرائم. وفيلم «Igby Goes Down» عام 2002، والساخر «نابوليون داينامايت» 2004، وفيلم الرحلة البرية المتمرد «هارولد وكومار يذهبان إلى وايت كاسل» و«غاردن ستيت» 2004.
بالنسبة للممثلين فقد أصبح الانتقال من السينما السائدة إلى المستقلة شيئاً جذاباً في بداية القرن 21 لأنها تعطيهم فرصة لتغيير أنماط أدوارهم والدخول في تحديات جديدة لا يجدونها في السينما السائدة، فمثلاً الممثلة الأميركية من أصول إفريقية، هالي بيري، فازت بجائزة أوسكار أفضل ممثلة في فيلم «كرة الوحش» 2001 عن نادلة تقيم علاقة غير شرعية مع سجان عنصري (بيلي بوب ثورنتون) بعد إعدام زوجها.
بعد عامين فازت عارضة الأزياء التي تحولت إلى ممثلة، الجنوب إفريقية تشارليز ثيرون، بجائزة أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم المستقل «وحش» 2003، عن قصة القاتلة المتسلسلة الحقيقية، أيلين وورنوس. اليوم الاستقلال في السينما أصبح جزئياً (السوق تتطلب تقديم تنازلات لمصلحة السينما السائدة، أي أن الفيلم المستقل يجب أن يحمل سمات محددة للسينما السائدة).
للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.